تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 26 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 26

26 : تفسير الصفحة رقم 26 من القرآن الكريم

** وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله, واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل, قالوا في جواب ذلك: بل نتبع ما ألفينا, أي وجدنا عليه آباءنا, أي من عبادة الأصنام والأنداد, قال الله تعالى منكراً عليهم: {أولو كان آباؤهم} أي الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم {لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} أي ليس لهم فهم ولا هداية. وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أنها نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام, فقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا, فأنزل الله هذه الاَية, ثم ضرب لهم تعالى مثلاً. كما قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالاَخرة مثل السوء} فقال {ومثل الذين كفرو} أي فيما هم فيه من الغى والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها بل إذا نعق بها راعيها, أي دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه بل إنما تسمع صوته فقط. هكذار روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد عكرمة وعطاء والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس نحو هذا. وقيل: إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئاً واختاره ابن جرير, والأول أولى, لأن الأصنام لا تسمع شيئاً ولا تعقله ولا تبصره ولا بطش لها ولا حياة فيها. وقوله {صم بكم عمي} أي صم عن سماع الحق, بكم لا يتفوهون به, عمي عن رؤية طريقه ومسلكه {فهم لا يعقلون} أي لا يعلمون شيئاً ولا يفهمونه.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى, وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده, والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة, كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت, عن أبي حازم, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل, إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعلمون عليم}, وقال {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب, ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام, وغذي بالحرام فأنىَ يستجاب لذلك ؟» ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من ذلك حديث فضيل بن مرزوق. ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيبه, ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة, وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع, وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} على ما سيأتي إن شاء الله, وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه السلام في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعاً «أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال» وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة.
(مسألة) ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره. لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية: هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة, وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة, وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس, فقال القرطبي في التفسير ههنا يخالط اللبن منها يسير, ويعف عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع وقد روى ابن ماجه من حديث سيف بن هارون عن سليمان التميمي, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء, فقال «الحلال ما أحل الله في كتابه, والحرام ما حرم الله في كتابه, وما سكت عنه فهو مما عفا عنه» وكذلك حرم عليهم لحم الحنزير سواء ذكي أم مات حتف أنفه, ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليباً أو أن اللحم يشمل ذلك أو بطريق القياس على رأي وكذلك حرم عليهم ما أهل به لغير الله, وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له. وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري: أنه سئل عن امرأة عملت عرساً للعبها فنحرت فيه جزوراً, فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم, وأورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه, وكلوا من أشجارهم ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة, فقال {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} أي في غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد {فلا إثم عليه} أي في أكل ذلك {إن الله غفور رحيم}, وقال مجاهد: فمن اضطر غير باغ ولا عاد, قاطعاً للسبيل أو مفارقاً للأئمة, أو خارجاً في معصية الله, فله الرخصة, ومن خرج باغياً أو عادياً أو في معصية الله, فلا رخصة له وإن اضطر إليه, وكذا روي عن سعيد, بن جبير. وقال سعيد في رواية عنه ومقاتل بن حيان: غير باغ يعني غير مستحله, وقال السدي: غير باغ, يبتغي فيه شهوته, وقال آدم بن أبي إياس: حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء وهو الخراساني, عن أبيه, في قوله {غير باغغ} قال: لا يشوي من الميتة ليشتهيه, ولا يطبخه, ولا يأكل إلا العلقة, ويحمل معه ما يبلغه الحلال, فإذا بلغه ألقاه, وهو قوله {ولا عاد} ويقول لا يعدو به الحلال, وعن ابن عباس: لا يشبع منها, وفسره السدي بالعدوان, وعن ابن عباس {غير باغ ولا عاد} قال {غير باغ} في الميتة ولا عاد في أكله, وقال قتادة: فمن اضطر غير باغ ولا عاد, قال: غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالا إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة, وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله: فمن اضطر, أي أكره على ذلك بغير اختياره.
(مسألة) إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا اذى, فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بغير خلاف ـ كذا قال ـ ثم قال: وإذا أكله, والحالة هذه, هل يضمن أم لا ؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك, ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية: سمعت عباد بن شرحبيل الغبري قال: أصابتنا عاماً مخمصة, فأتيت المدينة, فأتيت حائطاً, فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته, وجعلت منه في كسائي, فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته, فقال للرجل «ما أطعمته إذ كان جائعاً ولا ساعياً, ولا علمته إذ كان جاهلاً» فأمره فرد إليه ثوبه, فأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق, إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة: من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق, فقال «من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة, فلا شيء عليه» الحديث, وقال مقاتل بن حيان في قوله: {فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}: فيما أكل من اضطرار, وبلغنا, والله أعلم. أنه لا يزاد على ثلاث لقم, وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام, رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار, وقال وكيع: أخبرنا الأعمش عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات, دخل النار, وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة, قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكياالهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال, وهذا هو الصحيح عندنا, كالإفطار للمريض ونحو ذلك.

** إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ * ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ نَزّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
يقول تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة, فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم, فخشوا ـ لعنهم الله ـ إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم, فكتموا ذلك ابقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير, فباعوا أنفسهم بذلك واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله, بذلك النزر اليسير, فخابوا وخسروا في الدنيا والاَخرة, أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعله معه من الاَيات الظاهرات والدلائل القاطعات, فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه, وصاروا عوناً له على قتالهم, وباءوا بغضب على غضب, وذمهم الله في كتابه في غير موضع فمن ذلك هذه الاَية الكريمة {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليل} وهو عرض الحياة الدنيا {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق, ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة, كما قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعير} وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال, «الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»
وقوله: {ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم, لأنهم كتموا وقد علموا, فاستحقوا الغضب, فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم, أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذاباً أليماً, وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه, ههنا حديث الأعمش عن أبي حازم, عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله, ولا ينظر إليهم, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم: شيخ زان, وملك كذاب, وعائل مستكبر» ثم قال تعالى مخبرا عنهم {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي اعتاضوا عن الهدى, وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه, استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم {والعذاب بالمغفرة} أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب, وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة, وقوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل, يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال, عياذاً بالله من ذلك, وقيل معنى قوله: {فما أصبرهم على النار} أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار, وقوله تعالى: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق} أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل, وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوا, فكتابهم أمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه, وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر, وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه ويكتمون صفته, فاستهزؤا بآيات الله المنزلة على رسله, فلهذا استحقوا العذاب والنكال, ولهذا قال {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد